فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

إن إظلال الجبل لاشك أنه من أعظم المخوفات ومع ذلك فقد أصروا على كفرهم وصرحوا بقولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} وهذا يدل على أن التخويف وإن عظم لا يوجب الانقياد. اهـ.
قال الفخر:
الأكثرون من المفسرين اعترفوا بأنهم قالوا هذا القول، قال أبو مسلم: وجائز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان فعبر عن ذلك بالقول وإن لم يقولوه كقوله تعالى: {أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [البقرة: 177] وكقوله: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] والأول أولى لأن صرف الكلام عن ظاهره بغير الدليل لا يجوز. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي سمعنا قولك: {خذوا} و{اسمعوا} وعصينا أمرك فلا نأخذ ولا نسمع سماع الطاعة، وليس هذا جوابًا ل {اسمعوا} باعتبار تضمنه أمرين لأنه يبقى {خذوا} بلا جواب، وذهب الجم إلى ذلك وأوردوا هنا سؤالًا وجوابًا، حاصل الأول أن السماع في الأمر إن كان على ظاهره فقولهم سمعنا طاعة وعصينا مناقض وإن كان القبول فإن كان في الجواب كذلك كذب وتناقض وإلا لم يكن له تعلق بالسؤال، وزبدة الجواب أن السماع هناك مقيد والأمر مشتمل على أمرين سماع قوله وقبوله بالعمل فقالوا: نمتثل أحدهما دون الآخر، ومرجعه إلى القول بالموجب، ونظيره {يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} [التوبة: 61] وقيل: المعنى قالوا بلسان القال سمعنا وبلسان الحال عصينا، أو سمعنا أحكامًا قبل وعصينا فنخاف أن نعصي بعد سماع قولك هذا، وقيل: {سمعنا} جواب {اسمعوا} و{عصينا} جواب {خذوا} وقال أبو منصور: إن قولهم: {عصينا} ليس على أثر قولهم: {سمعنا} بل بعد زمان كما في قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} [البقرة: 4 6] فلا حاجة إلى الدفع بما ذكر، وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى جميع ذلك بعدما سمعت كما لا يخفى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

قوله: {واسمعوا} مراد به الامتثال فهو كناية كما تقول فلان لا يسمع كلامي أي لا يمتثل أمري إذ ليس الأمر هنا بالسماع بمعنى الإصغاء إلى التوراة فإن قوله: {خذوا ما آتيناكم بقوة} يتضمنه ابتداء لأن المراد من الأخذ بالقوة الاهتمام به وأول الاهتمام بالكلام هو سماعه والظاهر أن قوله: {خذوا ما آتيناكم بقوة} لا يشمل الامتثال فيكون قوله: {واسمعوا} دالًا على معنى جديد وليس تأكيدًا، ولك أن تجعله تأكيدًا لمدلول {خذوا ما آتيناكم بقوة} بأن يكون الأخذ بقوة شاملًا لنية الامتثال وتكون نكتة التأكيد حينئذ هي الإشعار بأنهم مظنة الإهمال والإخلال حتى أكد عليهم ذلك قبل تبين عدم امتثالهم فيما يأتي ففي هذه الآية زيادة بيان لقوله في الآية الأولى: {واذكروا ما فيه} [البقرة: 63].
واعلم أن من دلائل النبوة والمعجزات العلمية إشارات القرآن إلى العبارات التي نطق بها موسى في بني إسرائيل وكتبت في التوراة فإن الأمر بالسماع تكرر في مواضع مخاطباتتِ موسى لملإ بني إسرائيل بقوله: اسمع يا إسرائيل، فهذا من نكت اختيار هذا اللفظ للدلالة على الامتثال دون غيره مما هو أوضح منه وهذا مثل ما ذكرنا في التعبير بالعهد.
وقوله: {قالوا سمعنا وعصينا} يحتمل أنهم قالوه في وقت واحد جوابًا لقوله: {واسمعوا} وإنما أجابوه بأمرين لأن قوله: {اسمعوا} تضمن معنيين معنى صريحًا ومعنى كنائيًا فأجابوا بامتثال الأمر الصريح وأما الأمر الكنائي فقد رفضوه وذلك يتضمن جواب قوله: {خذوا ما آتيناكم بقوة} أيضا لأنه يتضمن ما تضمنه {واسمعوا} وفي هذا الوجه بعد ظاهر إذ لم يعهد منهم أنهم شافهوا نبيهم بالعزم على المعصية وقيل: إن قوله: {سمعنا} جواب لقوله: {خذوا ما آتيناكم} أي سمعنا هذا الكلام، وقوله: {وعصينا} جواب لقوله: {واسمعوا} لأنه بمعنى امتثلوا ليكون كل كلام قد أجيب عنه ويبعده أن الإتيان في جوابهم بكلمة {سمعنا} مشير إلى كونه جوابًا لقوله: {اسمعوا} لأن شأن الجواب أن يشتمل على عبارة الكلام المجاب به وقوله: ليكون كل كلام قد أجيب عنه قد علمت أن جعل {سمعنا وعصينا} جوابًا لقوله: {واسمعوا} يغني عن تطلب جواب لقوله: {خذوا} ففيه إيجاز، فالوجه في معنى هذه الآية هوما نقله الفخر عن أبي مسلم أن قولهم: {عصينا} كان بلسان الحال يعني فيكون {قالوا} مستعملًا في حقيقته ومجازه أي قالوا: سمعنا وعصوا فكأن لسانهم يقول عصينا.
ويحتمل أن قولهم: {عصينا} وقع في زمن متأخر عن وقت نزول التوراة بأن قالوا عصينا في حثهم على بعض الأوامر مثل قولهم لموسى حين قال لهم: ادخلوا القرية {لن ندخلها أبدًا} [المائدة: 24] وهذان الوجهان أقرب من الوجه الأول.
وفي هذا بيان لقوله في الآية الأولى: {ثم توليتم من بعد ذلك} [البقرة: 64]. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واسمعوا}.
قال بعض العلماء: هو من السمع بمعنى الإجابة، ومنه قولهم سمعًا وطاعة أي: إجابة وطاعة، ومنه: سمع الله لمن حمده في الصلاة أي: أجاب دعاء من حمده، ويشهد لهذا المعنى قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]، وهذا قول الجمهور، وقيل: إن المراد بقوله: {واسمعوا} أي: بآذانكم، ولا تمتنعوا من أصل الاستماع.
ويدل لهذا الوجه: أن بعض الكفار ربما امتنع من أصل الاستماع خوف أن يسمع كلام الأنبياء، كما في قوله تعالى عن نوح مع قومه: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ واستكبروا استكبارا} [نوح: 7].
وقوله عن قوم نبينا صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]، وقوله: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر يَكَادُونَ يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَ} [الحج: 72]، وقوله: {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}. لأن السمع الذي لا ينافي العصيان هو السمع بالآذان دون السمع بمعنى الإجابة. اهـ.

.قال الفخر:

وأشربوا في قلوبهم حب العجل، وفي وجه هذا الاستعارة وجهان:
الأول: معناه تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب، وقوله: {فِى قُلُوبِهِمْ} بيان لمكان الإشراف كقوله: {وَإِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10].
الثاني: كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض فكذا تلك المحبة كانت مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَأُشْرِبُواْ في قُلُوبِهِمُ العجل} عطف على {قَالُواْ} أو مستأنف أو حال بتقدير قد أو بدونه.
والعامل {قالوا} والإشراب مخالطة المائع الجامد، وتوسع فيه حتى صار في اللونين، ومنه بياض مشرب بحمرة، والكلام على حذف مضاف أي حب العجل، وجوز أن يكون العجل مجازًا عن صورته فلا يحتاج إلى الحذف، وذكر القلوب لبيان مكان الإشراب، وذكر المحل المتعين يفيد مبالغة في الإثبات؛ والمعنى داخلهم حب العجل ورسخ في قلوبهم صورته لفرط شغفهم به كما داخل الصبغ الثوب وأنشدوا:
إذا ما القلب أشرب حب شيء ** فلا تأمل له عنه انصرافًا

وقيل: أشربوا من أشربت البعير إذا شددت في عنقه حبلًا كأن العجل شد في قلوبهم لشغفهم به؛ وقيل: من الشراب ومن عادتهم أنهم إذا عبروا عن مخامرة حب أو بغض استعاروا له اسم الشراب إذ هو أبلغ منساغ في البدن، ولذا قال الأطباء: الماء مطية الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن، وقال الشاعر:
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ** ولا حزن ولم يبلغ سرور

وقيل: من الشرب حقيقة، وذلك أن السدي نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم: اشربوا فشربوا جميعهم فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه، ولا يخفى أن قوله تعالى: {فِى قُلُوبِهِمْ} يبعد هذا القول جدًا على أن ما قص الله تعالى لنا في كتابه عما فعل موسى عليه السلام بالعجل يبعد ظاهر هذه الرواية أيضًا، وبناء أشربوا للمفعول يدل على أن ذلك فعل بهم ولا فاعل سواه تعالى.
وقالت المعتزلة: هو على حد قول القائل أنسيت كذا ولم يرد أن غيره فعل ذلك به وإنما المراد نسيت وأن الفاعل من زين ذلك عندهم ودعاهم إليه كالسامري.
{بِكُفْرِهِمْ} أي بسبب كفرهم لأنهم كانوا مجسمة يجوزون أن يكون جسم من الأجسام إلهًا أو حلولية يجوزون حلوله فيه تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، ولم يروا جسمًا أعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سول لهم، وثعبان العصا كان لا يبقى زمانًا ممتدًا ولا يبعد من أولئك أن يعتقدوا عجلًا صنعوه على هيئة البهائم إلهًا وإن شاهدوا ما شاهدوا من موسى عليه السلام لما ترى من عبدة الأصنام الذين كان أكثرهم أعقل من كثير من بني إسرائيل، وقيل: الباء بمعنى مع أي مصحوبًا بكفرهم فيكون ذلك كفرًا على كفر. اهـ.

.قال القرطبي:

وإنما عبرّ عن حُبّ العجل بالشُّرب دون الأكل لأن شرب الماء يتغلغل في الأعضاء حتى يصل إلى باطنها، والطعام مجاور لها غير متغلغل فيها.
وقد زاد على هذا المعنى أحد التابعين فقال في زوجته عَثْمَة، وكان عَتَب عليها في بعض الأمر فطلّقها وكان مُحِبًا لها:
تغلغل حُبُّ عَثْمَة في فؤادي ** فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب ** ولا حزن ولم يبلغ سرور

أكاد إذا ذكرتُ العهد منها ** أطير لَوَ أن إنسانًا يطير

وقال السُّدّي وابن جُريج: إن موسى عليه السلام بَرَد العجل وذرّاه في الماء، وقال لبني إسرائيل: اشربوا من ذلك الماء؛ فشرب جميعهم، فمن كان يحبّ العجل خرجت بُرادة الذهب على شَفَتَيْه.
ورُوِيَ أنه ما شربه أحد إلا جُنّ؛ حكاه القُشيري.
قلت: أمّا تذرِيَتُه في البحر فقد دلّ عليه قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفًا} [طه: 97] وأمّا شُرْبُ الماء وظهور البُرادة على الشِّفاه فيردّه قوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل}. والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} التقدير حب العجل، والمعنى جعلت قلوبهم تشربه، وهذا تشبيه ومجاز، عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم، وقال قوم: إن معنى قوله: {وأشربوا في قلوبهم العجل} شربهم الماء الذي ألقى فيه موسى برادة العجل، وذلك أنه برده بالمبرد ورماه في الماء، وقيل لبني إسرائيل: اشربوا من ذلك الماء فشرب جميعهم، فمن كان يحب العجل خرجت برادة الذهب على شفتيه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول يرده قوله تعالى: {في قلوبهم}، وروي أن الذين تبين فيهم حب العجل أصابهم من ذلك الماء الجبن. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {وأشربوا} يدل على أن فاعلًا غيرهم فعل بهم ذلك، ومعلوم أنه لا يقدر عليه سوى الله، أجابت المعتزلة عنه من وجهين: الأول: ما أراد الله أن غيرهم فعل بهم ذلك لكنهم لفرط ولوعهم وإلفهم بعبادته أشربوا قلوبهم حبه فذكر ذلك على ما لم يسم فاعله كما يقال فلان: معجب بنفسه، الثاني: أن المراد من أَشْرب أي زَيَّنه عندهم ودعاهم إليه كالسامري وإبليس وشياطين الإنس والجن.
أجاب الأصحاب عن الوجهين بأن كلا الوجهين صرف اللفظ عن ظاهره وذلك لا يجوز المصير إليه إلا لدليل منفصل، ولما أقمنا الدلائل العقلية القطعية على أن محدث كل الأشياء هو الله لم يكن بنا حاجة إلى ترك هذا الظاهر.
أما قوله تعالى: {بِكُفْرِهِمْ} فالمراد باعتقادهم التشبيه على الله وتجويزهم العبادة لغيره سبحانه وتعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وإنما جعل حبهم العجل إشرابًا لهم للإشارة إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه كقولهم أُولِع بكذا وشُغِف.
والعجلَ مفعول {أشربوا} على حذف مضاف مشهور في أمثاله من تعليق الأحكام وإسنادها إلى الذوات مثل: {حُرِّمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] أي أكل لحمها.
وإنما شغفوا به استحسانًا واعتقادًا أنه إلههم وأن فيه نفعهم لأنهم لما رأوه من ذهب قدسوه من فرط حبهم الذهب.
وقد قوي ذلك الإعجاب به بفرط اعتقادهم ألوهيته ولذلك قال تعالى: {بكفرهم} فإن الاعتقاد يزيد المعتقد توغلًا في حب معتقده.
وإسناد الإشراب إلى ضمير ذواتهم ثم توضيحه بقوله: {في قلوبهم} مبالغة وذلك مثل ما يقع في بدل البعض والاشتمال وما يقع في تمييز النسبة.
وقريب منه قوله تعالى: {إنما يأكلون في بطونهم نارًا} [النساء: 10] وليس هو مثل ما هنا لأن الأكل متمحض لكونه منحصرًا في البطن بخلاف الإشراب فلا اختصاص له بالقلوب. اهـ.

.قال الفخر:

المراد {بئسما يأمركم به إيمانكم} بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العجل وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما قال في قصة شعيب: {أَصلاتُكَ تَأْمُرُكَ} [هود: 87] وكذلك إضافة الإيمان إليهم. اهـ.